تصميم: يوسف أيمن - المنصة

ألاعيب العقل: لماذا قد تحافظ سيدة على العلاقة برجل اعتدى عليها؟

منشور الثلاثاء 22 ديسمبر 2020

بعد أن قرأت هالة* إحدى شهادات التحرش تتضمن محاولة كاتبتها تفسير سبب حفاظها على علاقة جيدة بالرجل الذي تتهمه اليوم بالاعتداء عليها، تذكرت حادثًا وقع قبل سنتين من أحد أصدقائها، فقررت "تنظيف الجرح" الذي كبر بداخلها وكبرت معه محاولات إنكاره؛ أرسلت رسالة أخيرة لهذا "الصديق"، ثم حظرته وأنهت علاقتها به. 

في الأيام الماضية، توالت شهادات من سيدات تعرضن للتحرش والاعتداء الجنسي، منها شهادات روت صاحباتها أنهن احتفظن بعلاقة مستمرة مع المعتدي دون مواجهته بالأمر، وهو الأمر الذي أُخِذ عليهن في أحيان كثيرة وكان سببًا للتشكيك في صدق الشهادات، حيث لم يبدُ الأمر منطقيًا بالنسبة للكثيرين، ما استدعى إلى النقاشات التي رافقت نشر هذه الشهادات، سؤالًا بدا مهمًا، يتعلق بالأسباب التي قد تدفع امرأة تعرضت لاعتداء أو تحرش جنسي من رجل في دوائر معارفها إلى الاحتفاظ بعلاقتها به.

إجابة هذا السؤال ترتبط أحيانًا بالسياقات الاجتماعية وموازين القوى التي تحكم علاقة السيدة بالرجل الذي اعتدى عليها، وفي أحيان أخرى يتعلق الأمر بكيفية تعامل العقل الباطن مع تلك الحوادث، ولجوئه في أوقات كثيرة إلى التشكيك في كونها اعتداءً، أو محاولة إنكار حدوثها من الأساس.

كانت الصدمة هي أول ما شعرت به هالة عندما تحرش بها صديقها "كنا في عربيته، ولقيته فجأة وبدون مقدمات بيقرب مني وبيحاول يلمس جسمي، أنا وقتها اتصدمت من الفعل، ومبقتش عارفة إيه الرد المناسب، هو كان صديق مقرب مني قوي وكنت بحترم رأيه ومبهورة بيه جدا كصديق ممكن أحكي له أي حاجة"، حسبما قالت للمنصة

أما رد فعلها الأول فكان الصمت "معملتش أي رد فعل، غير إني تنّحت وبعدت بجسمي، وهو لما لقاني ببعد قالي تعالي نقعد شوية في كافيه، ونزلنا قعدنا وقعد يتكلم في مواضيع كتير مختلفة، لدرجة إني تخيلت إن اللي حصل ده أصلا محصلش وأنا كان بيتهيألي أو أنا اللي مقفلة بزيادة".

فترة طويلة عاشتها هالة، التي يبلغ عمرها اليوم 28 عامًا، تحاول تسمية ما حدث "أنا فضلت أيام بعد اللي حصل بحاول أترجم إيه ده، تحرش ولا حاجة عادية وأنا اللي دقه قديمة، طب هو أنا مفروض أعمل إيه، طيب هو لو سألته ممكن يعمل إيه أو يحصل إيه أو يقول عليا إيه. أنا فضلت في صراع لحد ما حسيت إني هتجنن وقررت إني مش هفكر في اللي حصل وهتعامل عادي، علشان كمان مكنتش حابة أحس إني ضحية".

رغبتها في عدم الإحساس بأنها ضحية، جعلها تتجاهل الواقعة، وتتعامل مع صديقها كأن شيئًا لم يكن "أنا فضلت السنتين دول باتعامل معاه عادي وبنتكلم. يمكن قللت مقابلاتنا شوية، بس مخي كأنه عمل إنكار للي حصل، مع إني كل ما أفتكره بحس بخوف ورعب إن إيده كانت ممكن تفضل على جسمي أكتر، بس برضه كنت بهرب من التفكير في الموضوع ده أصلا، مش ناسياه وبرضه مش عايشاه".

لسنا ضعيفات

نلجأ أحيانا لإنكار الواقع كما قالت الطبيبة النفسية سالي توما للمنصة، حتى لا نبدو ضحايا أو أشخاصًا ضعفاء "اللي بيحصل لمخنا في الحالات اللي شبه دي إننا بندخل في مرحلة إنكار للي حصل وكأنه محصلش علشان ما نظهرش كضحايا أو أشخاص ضعيفة".

وبجانب الرغبة في الإنكار، هناك عامل آخر وفقا لتوما، وهي الثقافة الذكورية المسيطرة على قطاع كبير من النساء بمختلف الطبقات والفئات "المنظور الذكوري اللي بيكون مترسخ في الست من فترات طويلة إن جسمها مستباح أو مش من حقها تعترض على الأذى الجسدي لأنها ممكن تتلام، دي كلها عوامل بتخلي الست تقرر ما تواجهش، بالعكس تفضل علاقتها مستمرة مع الشخص المعتدي علشان تبقى دليل، بالنسبة لها، إن مفيش حاجة حصلت".

بعد سنتين من الواقعة وبعد أن قرأت شهادات مرّت صاحباتها بما مرت به هي؛ قررت هالة المواجهة، ولكن مواجهة مقتضبة بحسب وصفها "أنا مقدرتش أعمل حاجة غير إني أشتمه وأعمل له بلوك، وأقوله إني فهمت إن اللي حصل ده كان تحرش. رد فعلي جه متأخر ويمكن ميكونش عنيف، بس الحقيقة أنا ارتحت شوية لما قررت أواجه، وحسيت إني قوية شوية، واللي شجعني على ده كمان شهادات التحرش والاغتصاب اللي بقيت بشوفها طول الوقت".

سهّلت شهادات التحرش مهمة هالة في مواجهة المتحرش. هنا يرى استشاري الطب النفسي الدكتور نبيل القط أن مساحات الحكي التي وفرتها حركة Me Too المصرية، مثل مدونة دفتر حكايات، ساعدت العديد من الفتيات والسيدات على تمييز وفهم الحوادث التي مررن بها. يشرح أكثر في حديثه للمنصة "في كتير من الأحيان بيحصل لبس عند الست، ومش عارفة تحدد الفعل ده إيه، هل هو مغازلة ولا تحرش ولا كلام عادي وهي فهمته غلط، وده سببه الخلط في المفاهيم، والخلط بين ما هو فردي أو عام وما هو شخصي، ففي كتير من الأوقات الست بتكون مش مرتاحة للي بيحصل لكن مش عارفة ترد أو تاخد موقف بسبب اللبس في المفاهيم".

ما حدث مع هالة فسره القط بأنه "تحرك بأثر رجعي، بعد تكوين المعرفة واكتشاف أن ما حدث هو أذى نفسي وجسدي، فتحدث إعادة صياغة للواقعة، وحينها قد تقرّر السيدة التحدث خاصة بعد وجود العديد من القنوات التي يمكن الحكي من خلالها مع إخفاء الهوية".

خوف من الأذى

التحرك بأثر رجعي حدث أيضًا مع مروة* وهي صحفية بدأت مشوارها المهني قبل ثماني سنوات في موقع صحفي مع بدايات تأسيسه وقتها. تحكي للمنصة "من أكتر من 8 سنين، كنت لسه متخرجة من الكلية وبدور على أي فرصة شغل في جرنال، وبعت لرئيس تحرير واحد من المواقع اللي كانت لسه فاتحة جديد، وقالي إنهم محتاجين مراسلة في المحافظة بتاعتي، وبالفعل بدأت معاهم شغل، وكنت ببعت أسال رئيس التحرير على حاجات على الفيسبوك وآخد رأيه في شغلي فكان بيتطرق بالكلام لحتت شخصية قوي، بس كنت برد وأنا مش مستريحة وأرجع للشغل تاني".

مر الشهر الأول، وسافرت مروة من مدينتها إلى القاهرة لاستلام راتبها الأول "أنا كنت لسه متخرجة ومعنديش أي خبرة، وبالنسبة لي ده فرصة كنت شيفاها مش هتتعوض، وبعد ما قبضت من الحسابات دخلت لرئيس التحرير، وسألته إيه رأيك في الشغل، قالي مش بطال، وقعد يسألني عن رأيي في العلاقات بين الراجل والست، وقام من على مكتبه وجه ناحيتي ولمس جسمي ورجع تاني، أنا من الصدمة ما اتحركتش من مكاني، واستأذنت منه، وطلعت أركب من القاهرة لمحافظتي، وأنا طول الطريق حاسه بالذنب، إن إيه اللي حصل لي ده، وإن أكيد أنا السبب فيه".

الصدمة كانت شعورًا لازم مروة فترة طويلة، وهو من الأسباب التي تدفع لإنكار الأمر وفقا للقط "في كتير من الأحوال والحالات الستات بتتصدم فما بتعرفش ترد، ولما بتفوق من الصدمة وتفكر ممكن وقتها ترد أو تاخد قرار، كمان الخوف إنها لو اتكلمت هتتأذي فده بيخلي مخها ينكر اللي حصل من الأساس".

صدمة ثم خوف وشعور بالذنب. هذا مع حدث مع مروة بعد تعرضها لمحاولة التحرش "معرفتش أحكي لحد، ولو كنت قلت لماما مثلًا ولا حد من صاحباتي كانوا هيقولوا لي سيبي الشغل وده كنت شايفاه وقتها فرصة، فقررت مش هاحكي لحد، وكمان مقدرتش أواجه رئيس التحرير بأي رد فعل، بالعكس فضلت معاه على علاقة كويسة، بحاول أتجنب إني أروح مكتبه اليوم اللي بسافر أقبض فيه، لكن مقدرتش أواجهه بإن الفعل أذاني، وفضلت في الموقع 4 شهور، كل ما أفتكر اللي حصل بخاف وبترعب وبحس بضعف شديد".

بعد أربعة شهور، تلقت مروة عرضًا للعمل في جريدة ورقية براتب أكبر "وقتها حسيت إن دي فرصة أبعد خالص من المكان ده وسبته فعلا، لكن ما اتكلمتش مع رئيس التحرير في حاجة، عملت له بلوك وخلاص".

ابتعدت مروة عن المكان الذي حفر في ذاكرتها أحداثًا سيئة، وبعد مرور ثمانية أعوام قررت فتح ذاكرتها مجددًا لتنظيفها من الأحداث الموجعة كما قالت "بعد 8 سنين وبعد أصلًا ما الموقع الإلكتروني مبقاش موجود، ورئيس التحرير سافر بره مصر، قررت أفك البلوك بس علشان أبعت له إني دلوقتي عرفت إنه متحرش، وإني مش ناسية اللي حصل ومش مسامحة فيه، وعملت له بلوك تاني بعدها، ووقتها حسيت إن في هم كثير راح من على قلبي، وإني فعلًا انتصرت على خوفي اللي كان هيقتلني، وإن من حقي أقول لأ لأي فعل أو تصرف مش عاجبني".

حيل دفاعية

حسناء الدباوي، الطبيبة بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، قالت للمنصة إنه بجانب الإنكار والخوف، أحيانا يحاول المخ أن يتناسى لحظات الاعتداء "ساعات المخ ممكن يعمل بلوك للحظات دي بسبب إنها قاسية أو مؤلمة، فتلاقي الست فاكرة إن حصل لها اعتداء أو حاجة غلط بس مش فاكرة تفاصيله ولا قادرة تحدده وهنا الشخص بينفصل على الواقع تماما عن ذكرياته".

وتوضح الدباوي أن هذا التناسي "بيحصل كتير في حوادث التحرش أو الاغتصاب أو الوقائع اللي بنتعرض فيها لتروما، بيكون زي حيلة دفاعية علشان الشخص يقدر يتحمل الموقف الصعب أو يهرب من الألم، وده بيسبب تشوش للست اللي في الموقف فبتفضل على علاقة طيبة مع الشخص المعتدي لأنها مش فاكرة أصلا".

وفي أحيان أخرى، يكون سبب الحفاظ على العلاقة مع المعتدي راجعًا إلى لوم السيدات لأنفسهن وتحملهن جزءًا من المسؤولية "الستات ساعات بتحس بالذنب لأنها مثلا ركبت مع صديق ليها عربية أو راحت معاه في حته بإرادتها فبعد تعرضها للتحرش منه بتحس إنها شريكة في الواقعة" بأنها أرسلت إليه إشارات خاطئة تفيد موافقة ضمنية على الانخراط في علاقة جنسية، بحسب الدباوي. 


* أسماء الناجيات من حوادث الاعتداء الجنسي في هذا التقرير مستعارة لحمايتهنّ.